الجمعة، 7 أكتوبر 2011

الرشاوى والمحسوبية وإعطاء الهدايا


سوزان روز أكرمان(*)

الفساد هو إساءة استعمال السلطة العامة، من أجل تحقيق مكاسب شخصية. وتشكل العلاقات بين المؤسسة ورئيسها في القطاع العام فرصة لنمو الفساد. وعلى أي حال فإن هذا التعريف يعني ببساطة وجود تمايز بين دور الشخص ضمن عمله في القطاع العام وبين دوره الشخصي.
ولا يوجد في كثير من المجتمعات فاصل بين مثل هذا التمايز. كما تنتشر عادة إعطاء الهدايا داخل القطاع الخاص وتظهر وكأنها سلوكاً طبيعياً لجلب الوظائف والعقود إلى أصدقاء الشخص وأقاربه إضافة إلى أنها تقابل بتقديرٍ عال من الجميع. ولا يرى أحد أي سبب يمنع من نقل مثل هذه الممارسات إلى القطاع العام. وفي الحقيقة فإن فكرة التمييز بين القطاع بين العام والخاص تبدو غريبة لكثير من الناس.
ومع ذلك، فإن الشعوب في البلدان النامية تعمل على التمييز بين التصرف المناسب وغير المناسب وفقاً للأعراف والتقاليد الخاصة بها. وتشير المسوحات الرسمية والحوارات غير الرسمية إلى أن الإحباط ملازم للفساد وأن التعابير التي تنم عن التحمل والتسامح تعكس أحياناً التراجع والخوف من الانتقام ضد أولئك الذين يتذمرون. الأكثر من ذلك هو، أنه حتى ولو كانت الهدايا والامتيازات تواجه بالقبول، إلا أنها قد تفرض تكاليف خفية لا يتقبلها المواطنون العاديون بصدر رحب. ولا يستطيع الاقتصاديون الإجابة على المسائل الحضارية، ولكنها قد تساعد على فهم المضامين الخاصة بخيارات المجتمع. وتستطيع المجتمعات أن تسأل نفسها فيما إذا كانت قد خلصت إلى عادات ثقافية، تفرض تكاليف على إمكانية نمو الاقتصاد وعلى كفاءة الحكومة في تأدية عملها.
إن هذا الفصل، يفرق بين الرشاوى والأسعار، والهبات والهدايا ولكن الصعوبة في التمييز بين الهدايا والرشاوى تعود في جذورها إلى التشابه الأساسي بينهما. وفي كلتا الحالتين لا يمكن للنظام القانوني أن يفرض مبدأ المنفعة المتبادلة "اخدمني وأخدمك" لذلك يتوجب على متلقي الرشوة أو الهدية أن يستخدم طرقاً أخرى غير رسمية.
والجزء الأخير من هذا الفصل، يحدد المنافع والتكاليف التي يمكن لمثل هذه التحويلات غير الرسمية أن تقدمها للدول النامية أو للدول التي هي في صدد الانتقال من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق.
الرشاوى الهدايا، الأسعار، والهبات:
تصنف المدفوعات، سواء كانت بالنقود أو ما شابهها ضمن بعدين:
البعد الأول هو: هل هناك وجود لمنفعة مبادلة، إذا كان الأمر كذلك فإن هذه الصفقة يمكن تسميتها بعملية بيع، حتى ولو مرّ وقت طويل بين فترة الدفع وفترة تحقيق المنفعة. وكل من الاثنتين أي مبيعات السوق والرشاوى تستلزم تعهدات متبادلة.
فالهدايا التي تقدم للمؤسسات الخيرية والأشخاص المحببين لا تستلزم وبشكل بيِّن آية تبادل، على الرغم من أن الكثيرين يعطوها صفة التبادل الإلزامي.
أما البعد الثاني: فهو الموقع المؤسسي للدافعين وللمدفوع لهم. هل هم وكلاء أم مدراء؟ ففاتورة المطعم تدفع للمالك، والبقشيش يدفع للنادل ومخالفة السرعة تدفع للدولة أما الرشوة فقد تدفع لضباط البوليس ويستطيع المستخدمون ووكلاء المبيعات والعملاء، الدفع للوكلاء ويعطي الرؤساء الهدايا لمستخدميهم في عيد الميلاد، أما ممثلو المبيعات فيقدمون الهدايا لزبائنهم المشترين، والزبائن يعطون البقشيش للذين يقدمون لهم الخدمات.
بعض الناس، على أي حال، لديهم واجبات تجاه العامة أو تجاه مجموعات أخرى غير منظمة تفتقر إلى تحديد واضح لمبادئها. فالسياسيون على سبيل المثال، يمكن وصفهم كممثلين لمصالح الشعب أو لمصالح المواطنين الذين ينتخبوهم، ومن جهة أخرى، فهم يملكون قدرة معقولة على التصرف. وتعتبر الرغبة في إعادة الانتخابات، قيداً على السياسي ولكنها لا تمنع أبداً حصول بعض التعاملات الجانبية بغرض تحقيق مكاسب معينة. ولأن مبدأ المنفعة المتبادلة غامض بالعادة، يدعي المتبرعون بأنهم يعطون هدايا في حين لا يوافق البعض الآخر.

دفعات الزبائن أو العملاء
منفعة متبادلة منفعة متبادلة غير واضحة
الدفع للمدير سعر هدية

الدفع للوكيل الرشوة بقشيش

وبالتركيز على هذين البعدين فقط (وجود منفعة متبادلة وحضور أو غياب الوكلاء) نخرج بالتصنيفات الأربعة في جدول رقم(1) وهي الرشاوى والهبات والهدايا وأسعار السوق. وبالرغم من أن المقولات تتضمن تعابير مشحونة أخلاقياً مثل رشاوى وهدايا فإن الجدول يحدد الدفعات فقط ضمن علاقات الوكالة أو ضمن وجود منفعة متبادلة. وحتى لو لم يكن هناك صفقة تجارية إلا أن الأمر يبقى مفتوحاً أمام علاقات متبادلة.
إن ما يفرق الهدايا عن الأسعار هو النقص في وضوح مسألة المنفعة المتبادلة، ولكن يمكن أن يكون هناك ارتباطات أكثر دقة بين الهدايا وبين المنتفعين. يمكن لجامعة ما أن تنشئ كلية مهنية على أمل جذب المنح والهبات، ويمكن للطفل أن يجّد في دراسته على أمل حصوله على مكافأة من أمه وأبيه.
ومع ذلك فالكثير من الهدايا تعتبر تقديمات تقوم على المحبة والإيثار ودون توقع الحصول على مردود مادي بالمقابل. فالهدايا قد تشكل مكاسب نفسية تصنف في باب اللفتة الدافئة أو المؤازرة أو الاكتفاء بالعيش ضمن التزام أخلاقي (أندريوتي 1988، روز أكرمان 1996، سن 1977) ولكن دون أي طمع بمكاسب مادية. بعض الهدايا التي تنطوي على تضحية شخصية تؤذي المانح. مثل أن يفرض شخص التضحيات على أفراد أسرته أو أن يمنح حياته أو حياتها لشخص آخر أو لقضية ما.
إذا كانت الهدايا الفردية كبيرة بما فيه الكافية لترك هامش من التأثير على تصرف متلقيها، فإنها تمثل بوضوح مبدأ التبادل المنفعي أو طلب شيء بشيء ضمنياً.
وهذه بالعادة، حقيقة كثير من الهدايا التي تقدم إلى إعفاء الأسرة كما هي لبعض المنح الكبيرة، والهبات الاجتماعية لجمعيات البر والإحسان (الخيرية). في تلك الحالة، فإن هناك فارق وظيفي صغير بين هدايا تعطى من أجل أهداف بعيدة معلنة وتلك التي تعطى ضمن شرط تأسيس هذه الأهداف.
إذا كانت الهدايا المشروطة تخلق التزامات مؤكدة، فإنها تشبه المبيعات باستثناء أن المنفعة المقدمة بالمقابل يجب أن تكون متوافقة بعض الشيء مع غرض الإحسان (جوردلي 1995). مثل هذه الهدايا تدخل في عداد صندوق الأسعار.
ضمن تعابير التحليل الاقتصادي المعياري، تقترب الهدايا أكثر وأكثر لتصبح أسعاراً، كلما انتقلت في مستواها من هدايا جمعيات خيرية وقضايا إنسانية إلى هدايا لأشخاص محتاجين وغير معروفين وثم إلى هدايا لأصدقاء وأقارب وهدايا إلى أناس ومؤسسات يمكن الاستفادة منها. ولكن الاقتصاديات البسيطة فقط هي جزء من القصة. فالعلاقات الشخصية بين المعطي والآخذ أو بين المشتري والبائع تشكل أبعاداً مهمة لكثير من التعاملات ذات القيمة الجوهرية البعيدة كل البعد عن دورها في تنظيم الصفقة.
والآن، أنظر إلى العلاقات بين الوكالتين المذكورتين في الجدول، فالوكلاء بالعادة يقبضون من رؤسائهم وليس من الدخلاء كالزبائن ووكلاء المبيعات، في حين أن المدراء يحتاجون إلى تطوير نظام مكافأة ومراقبة يعطي للوكلاء حافزاً لإنجاز جيد. معظم الأبحاث التي تجري حول العلاقة بين الفوائد الناتجة عن مختلف خطط منح المكافآت تُظهر أن الكسل والتهرب من أداء الواجب هما المشكلة، وليست المشكلة في الرشاوى التي تدفع من فريق ثالث. هناك علاقة ذات جانبين بين المدير والوكيل البائع تعمل ضمن خلفية معطيات.
وقد أدخل بعض العلماء في نماذجهم فريقاً ثالثاً واستخدموا هذه النماذج لتحليل مشكلة الفساد (روز أكرمان 1978، تيرول 1986 ـ 1992) في حين فضل بعض الاقتصاديين اعتبار حقيقة أن الرشاوى هي دفعات من أجل خدمات (بايلي 1966، ليف 1964) فهي شبيه بالأسعار. ولكني كما أوضحت في الفصول السابقة فإن هذا التشابه يعتبر جزئياً ومحدوداً، فالرشاوى يمكنها أن تترك تأثيرات مشوهة على نشاط الحكومة والقطاع الخاص.
إن انتشار دفع الرشوات في مجتمع ما يشير إلى أن ذلك المجتمع قد بنى علاقاته العملية بشكل غير فعال. فإذا كان الزبائن في العادة يرشون العملاء، فلربما يكون من الأفضل لهؤلاء الزبائن استئجار العملاء للتعامل مع مديريهم السابقين. فعلى سبيل المثال، أفرض أن شركة سيارات تقدم خدمة تصليح مجانية لأولئك الذين يشترون سياراتها. عملياً سنجد أن الزبائن التّواقين إلى خدمة جيدة يرشون رجال الصيانة العاملين في ورش التصليح ليقوموا بعمل عالي الجودة وسريع.
والحقيقة التي تقول بأن أفضل مراقبة لرجل الصيانة في شؤون التصليح هي في شركة السيارات نفسها تعني أن اتفاقية الخدمة قد تكون أكثر فعالية حين توقع بموجب عقد بين الزبون ورجل الصيانة منها بين رجل الصيانة وشركة السيارات.
وعلى الرغم من وجود مثل هذا الحافز لإعطاء الرشوة التجارية، فإن شركة السيارات يمكنها الاستمرار في تقديم الصيانة كجزء من الكفالة المتقدمة للمشترين خارج الدفع في حين تقوم الضمانات بتحسين مركز الشركة التنافسي عن طريق تقليص عنصر المجازفة عند الزبائن. ولكنهم مثل جميع سياسات التأمين، يبتدعون تكاليف للمراقبة خارجة عن الموضوع (كرامتون وديز 1993: 366ـ 367) وتوجد نتائج متشابهة في الكثير من صناعات الخدمة المدنية حيث يشتري الزبائن خبرة الآخرين في الخدمة وبإمكانهم الحكم على المردود، على شكل صحة جيدة أو على شكل تعويض عن ضرر كبير من خلال دعوى قضائية. ولكنهم لا يستطيعون ملاحظة نوعية المردود بشكل مباشر.
ما هو الأفضل فعالية؟ أهو إحداث الأثر المطلوب من خلال دفع أجرة المستخدم مباشرة أو دفع مبلغ إجمالي إلى مؤسسة كبيرة (ولنقل شركة تأمين) ثم تقوم هذه المؤسسة بأعمال المراقبة والتعويض على الحرفيين؟ هل يجب أن يسمح ببيع الدعاوى القضائية للمحامين بدون تحفظ من أجل تجنب مشكلة الوكالة والمدير برمتها. وهل يجب على الدولة أن تدعم الخدمات القانونية عبر هيئات المحاكم؟ ولكي ندرك صعوبات الاحتمال الأخير، لنفرض بأن الدولة تقدم خدمات المحاماة مجاناً إلى أي شخص يقوم برفع دعوة قضائية ويدفع أجرة محددة للمحامين. ولنفرض أيضاً أن كثيراً من العملاء يدفعون سراً إلى محاميهم لحثهم على العمل بنشاط أكثر، وحين يصبح هذا النوع من الرشاوى التجارية أمراً عادياً فإن هذا يعني أن بيع الخدمات القانونية يجب أن يدخل في مجال الخصخصة مع إبقاء برنامج العون المالي لصالح الفقراء. وعلى النقيض من ذلك فإن أي دليل يثبت وجود أطراف تدفع الرشاوى إلى القضاة في دعوى للحصول على أحكام لصالحهم لا يعطي هذه الدفعات أية صفة شرعية. فالقاضي لا يعمل وكيلاً لأي طرف ولكنه ملزمٌُ تحت القسم على المحافظة على المبادئ العامة للقانون. وهذا يشكل على المدى الطويل رغبة جميع الذين يرتادون المحاكم.
أما في القطاع الخاص فإن ترتيب منح الامتيازات يقدم حلاً وسطاً للمشكلة بهدف تنشيط الوكلاء. والبائعون النهائيون هم الأعمال والمهن المستقلة التي يتقيد تصرفها بعقد الامتياز.
وإذا كان المدير، وهو في هذه الحالة صاحب الامتياز ينتفع من عمل البائعين وهم في هذه الحالة أيضاً، المستفيدون من الامتياز فإن هذه العلاقة تأخذ منح الاهتمام الشخصي في ترويج الإنتاج.
مثل هذه الترتيبات، يمكن أن تصبح ذات معنى. المستفيدون من الامتياز يجنون المنافع من أجل تقديم خدمة جيدة بدلاً من أخذ الرشاوى من أجل تقديم الشيء نفسه، ولكن هذا الخيار ليس متاحاً دائماً للحكومة. لنأخذ مثلاً مصلحة خدمات الحدائق الوطنية، فهي تستطيع أن توقع عقود امتياز مع تلك الشركات التي تقدم الطعام والسكن في حين لا تستطيع السلطة العامة التي تزود الوحدات السكنية عمل الشيء نفسه ما لم توقع اتفاقية معقدة للتأكد من أن الهدف من التزويد يصب في مصلحة المحتاجين.
والنقص في المرونة التنظيمية للدولة يحد من مقدرتها على إعادة تنظيم علاقة الوكالة. فالحكومة تستعمل الوكلاء (الوسطاء) في حين تقوم الشركات الخاصة ببيع خدماتها بشكل مباشر وبسهولة أكثر. وعلى النقيض من ذلك فإن القطاع العام يستعمل العقود في المواضع التي تندمج فيها الشركات الخاصة راسياً بسبب صعوبات في المراقبة.
وفي بعض الأحيان تستطيع الخصخصة وإعادة التنظيم تذليل هذه المصاعب، ولكن تبقى هناك بعض القيود المتأصلة في طبعة الخدمات الحكومية. فالوظائف الحكومية القانونية لا يمكن أن تكون منظمة بطبيعتها مثل الأسواق الخاصة. وهذه الحقيقة تدل ضمنياً بأنه لا يمكن أن يتم التخلص من كل حوافز الفساد في البرامج الحكومية ومع وجود البقاشيش، يبدو مبدأ المنفعة المتبادلة أكثر غموضا. فالخدمة تقدم بالعادة قبل دفع البقشيش وهي اختيار قانوني ممنوح بشكل غير رسمي. والمبلغ المنشود يكون بالعادة كيفياً ومتقلباً وغير محدد (زلزر 1994: 91) وفي الأحوال التي يجد فيها أصحاب الأعمال صعوبةً في تقييم النوعية، فإن المنح تسمح للعملاء بإصدار حكم نوعية الخدمة. وإذا كان العملاء أفضل من المدراء في المراقبة فإن المنح أو البقاشيش قد تصبح ذات معنى، وعلى النقيض من ذلك فإن الإدارة نفسها تستطيع أن تعطي المكافآت إذا ما تمكنت من تحقيق خدمة جيدة من المبيعات العالية للأفراد. فعلى سبيل المثال يمكن للمطاعم أن تكافئ النادلين العاملين لديها على قاعدة عدد الوجبات التي يقدمونها تماماً مثل البقاشيش. ولكن مثل هذه الخطة يمكن أن تكون أقل فعالية من البقاشيش. إلا أن منح المكافآت على قاعدة المقدار أو عدد الوجبات قد يؤدي إلى نتائج سيئة على الزبائن حين يحاول النادلون أن يدفعوهم لإنهاء وجباتهم بأسرع وقت لكي يفسحوا المجال لجلوس غيرهم. وبالتالي تحقيق أعلى قدر ممكن من الوجبات. كذلك فإن ربط المكافآت بمزيج من المقدار والنوعية يعتبر أكثر فعالية ويسمح للعملاء (الزبائن) بأن يدفعوا إلى الوكلاء مباشرة من أجل الحصول على خدمة جيدة ولكن البقاشيش تصبح غير مرغوبة لدى أصحاب العمل إذا ما استغلها الوكلاء للتمييز بين الزبائن بطريقة تؤدي إلى تقلص الدخل الذي يصل إلى الإدارة. تصور على سبيل المثال، الحالة التي يصبح فيها القائمون على الخدمة أكثر تفضيلاً للزبائن الفاسدين ويقومون بمنحهم خصومات على الوجبات المقدمة لهم أو يقدمون لهم أطباقاً طعماً بالمكافآت والبقاشيش.
التشابه بين الرشاوى والهدايا:
الهدايا والرشاوى تتشابهان في أمر هام، ففي كلتا الحالتين لا يمكن أن يتقدم فرد خائب الأمل إلى المحكمة أو يطالب بدفعة أو يصر على تنفيذ العقد الضمني فيها. والطرق المتعادلة لتأكيد الإذعان يجب أن تصمم من أجل استمالة الآخرين للعمل إذا وجدت الرغبة بذلك. وفي بعض الحالات فإن هذه التقنيات الخارجة عن القانون قد تكون أكثر فعالية وربما أرخص من تلك المتاحة لتجار السوق. وهناك عدة آليات غير رسمية ومتبعة تعتبر مألوفة وأكثر صلة بالموضوع مثل الثقة والسمعة والرهن والالتزامات المتبادلة (كرامتون ودييس 1993، وليامسون 1975، 1979) ومثل هذه التقنيات مرهوبة بصورة كبيرة في سياقات العقود العادية ولكنها يمكن أن تسهل التعاملات الفاسدة مثلما تسهل التحويلات المضادة. كما يمكن أن يكون هناك تضارب بين تلك السمات التي تبدو فاضلة من ذاتها وفي ذاتها، مثل الجدارة بالثقة والعواقب غير المرغوبة التي قد تحدث. ولعل أي فحص للرشوة والهدية سيساعد الفرد على أن يراعى بطريقة أخرى تلك النماذج المرغوبة التي تستطيع في بعض الحالات أن تحطم فعالية الاقتصاد وتقدمه.
الائتمان (الثقة):
في مناقشة موضوع المافيا الصقلية، يؤكد دييغو غامبيتا (1993) على انتشار عدم الثقة في الدولة الإيطالية. فقد ازدادت صفقات الملكيات الخاصة التجارية في وقت لم تكن فيه الدولة قادرة على تناول مثل هذه التعاملات، كما فشلت الدولة في توفير طريقة يعول عليها لحل الخلافات وإدارة تحويلات الملكية الخاصة فظهرت المافيا كبديل.
ويرى مراقبون آخرون أن ظهور المافيا للوجود في روسيا مدين للضعف المشابه للدولة (فاريز 1994). سيستعمل غامبيتا كلمة ثقة ضمن معنيين من الأفضل التفريق بينهما.
الأول: يشير إلى أن النقص في كفاءة وشرعية الدولة يجعل الناس لايثقون فيها لحل الخلافات بجدارة وعلى نحو لائق، ويشرعون بالبحث عن بدائل. وهذا المعنى للثقة لا يمت بصلة بالارتباطات الشخصية الوثيقة. فالعلاقة يمكن أن تكون بعيدة بعد ذراع اليد، وفي الحقيقة تزداد ثقة الشخص بالدولة عندما يكون مسؤولوها نزيهين وموضوعيين.
ثانياً: يمكن أن يثق الناس في بعضهم البعض بسبب الروابط الشخصية الحميمة أو بسبب علاقة القرابة والنسب وروابط العمل والصداقة. فالشخص يمكنه أن يثق بصديقه القوي لكي يساعده ليس لأن الصديق سيطبق القانون على نحوٍ لائق ولكن بسبب محاباته له.
ويؤكد غامبيتا أن إخفاق الثقة من كلا المعنيين يبرر اللجوء إلى خدمات الحماية الخاصة مثل المافيا.
في المقابل، أنا أجزم بأن النموذج الثاني للثقة والذي يرتكز على الارتباطات الشخصية، يسهل التحويلات الفاسدة والممنوحة معاً. وهذا التحليل يكمل بحث غامبيتا حول التنظيم الداخلي لعائلات المافيا التي تطلب شرعية ثابتة من أعضائها. واهتمامي ليس في الجريمة المنظمة بحد ذاتها ولكن في الطريقة التي تقوم بها الثقة والعلاقات الشخصية في إجراء معاملات فاسدة.
على سبيل المثال، توضح دارسة أجريت حول استصلاح الأرض في بلدتين برازيليتين، كيف تستطيع طريقة الثقة أن تحافظ على نظام فاسد. في إحدى البلدتين، أصبحت إدارة برامج الفساد راسخة بسبب العلاقات الشخصية بين وكلاء من عدة مؤسسات مختلفة، يعيشون جميعهم على مقربة من بعضهم البعض ويبنون علاقات صداقة خارج محيط العمل. أما في البلدة الثانية فكان البرنامج يدار بأمانة لأن الموظفين لم يرتبطوا بعلاقات شخصية ببعضهم البعض، إلى حد أن الموظفين من وكالة واحدة كانوا يرغبون بالاستجابة لشكاوى المواطن حول أولئك الذين يعملون في وكالات أخرى. وفي بعض الحالات، قاموا بمساعدة السكان المحليين على تنظيم احتجاجات أساسية (بنكر وكوهين 1983).
إن تقديم الهدايا وإعطاء الرشاوى يزداد شيوعاً حين تكون آليات حل النزاع القانوني مكلفة جداً أو تستغرق الكثير من الوقت. واذا لم تتوفر الضمانات القانونية فالثقة تصبح تلقائياً أكثر أهمية. ولكن عدم وجود الدعم القانوني، يعني احتمال عدم إنجاز بعض التعاملات.
فالصفقات التجارية التي تتطلب دفع الرشوة قبل إنجاز المرتشي للعمل، قد تكون شديدة الخطورة. والموظف الفاسد الذي يفشل في التسليم يستطيع أن يدعي بأن الدفعة التي استعملها كانت مجرد هدية من صديق أو معجب. وبشكل مشابه فإن الموظف الذي يستلم هدية ضمن مفهوم ضمني يستطيع أن يصورِّها كرشوة إذا ما ساءت العلاقة مع الطرف المهدي. والحقيقة أن طرفي الصفقة على حدٍ سواء لديهما الاهتمام بأن يبقى مضمون الدفعة ضبابياً (غير واضح) أمام عيون الآخرين. بينما يبقيان مضمونهما واضحاً تماماً فيما بينهما. والرشاوى يمكن تغليفها بقناع الهدايا لكي تلغي آية مسؤولية قانونية ولكن الازدواجية تجعل معرفة مدى إطاعة الموظف أمراً صعباً.
والهدايا المستخدمة ضمن مبدأ المنفعة المتبادلة الغير إجباري تظهر أكثر إذا وجدت علاقة ثقة بين الأطراف مبنية ضمن روابط عائلية أو صداقة. وهكذا تعطى الهدايا عادة لأفراد الأسرة ليس فقط لأن المعطي يشعر بعاطفة خاصة نحوهم ولكن أيضاً بسبب أن المستلم يرتبط بروابط عاطفية مع المانح، قد تكون أكثر ملائمة لكي ينجز هو أو هي جانباً من الصفقة المفهومية ضمناً. وعلى نفس الوتيرة، فإن الثقة تكتسب أهمية أيضاً في الصفقات التي يدخل فيها الفساد. ووفقاً لغامبيتا فإن نقص الثقة في الحكومة يؤدي إلى طلب خدمات الحماية الخاصة.
وعلى العكس من ذلك، فإن وجود إمكانية لبناء ثقة مرتكزة على علاقات شخصية مغلقة يساعد على التقليل من مخاطر الافتضاح ويقدم ضماناً للإنجاز عندما يكون الدفع ومبدأ المنفعة المتبادلة متباعدين زمنياً. فالموظف الحكومي يمكن أن يحابي أقربائه في توزيع الامتيازات والمنافع الشعبية الأخرى، طمعاً في حصة من المنافع وهو يفعل هذا، ليس فقط من باب الاهتمام بهم ولكن بسبب أنهم يهتمون به أيضاً ويكونون أقل احتمالاً لكشف أو إظهار التعامل الفاسد أو لنكث الاتفاق من الغرباء كما أن اعتماد المنافع على بعضها البعض، يقلل من المخاطر على كلا الطرفين (شميد وروبيسون 1995).
ويبقى الخطر طبعاً في أن يشكل أعضاء الأسرة المستائين خطراً بصورة خاصة، فالاعتماد الداخلي للمنفعة يمكن أن يعني أن قريباً مستاء قد يجد لذة خاصة في كشف قريبه الفاسد. وقد يصل الأمر بالحاكم الفاسد أن يتمنى لو أنه تعامل مع رجل أعمال انتهازي بارد لا يحتمل أن يقوم بتخريب عمل مشبوه. على أي حال ففي أي محيط فاسد حيث لا يستطيع القانون أن يفرض إنجاز العقود، لا يبقى هناك خيار سوى التعامل مع الأصدقاء وأعضاء الأسرة ويبقى الخطر في الثقة التي قد تنقلب إلى غضب، وجزءاً من التعاملات الخارجة عن القانون وغير المحددة النتيجة:
السمعة:
كما هو الحال في الأسواق القانونية، فالسمعة التي تطورت عبر الأداء المتكرر، تصبح بديلاً عن القانون وعن علاقات الثقة الشخصية معاً. فتوزيع المكافآت بسخاء على أي شخص يقوم بمساعدتك قد تجعل لك سمعة تغري الآخرين بمحاباتك ومساعدتك (بارني وهالسن 1994: 1978 ـ 1979) والسمعة التي تنشئ عن خداع المختلسين قد تساعد بالتأكيد على تنفيذ معاملات فاسدة كما أنها تحبط الناس عن التعاقد معك في المكانة الأولى.
والسمعة تؤثر على طرفي معاملات الهدية والرشوة على حدٍ سواء. وسمعة الشخص الذي يستجيب ثانياً هي مهمة للشخص الذي يقوم بالحركة الأولى. وعلى سبيل المثال يكون المانحون أكثر قابلية لتقديم الهبة إلى جامعة تعطي شهادات فخرية لخريجيها الأسخياء. والطفل يكون أكثر قابلية للتصرف بإذعان إذا كان والديه يمتلكان سمعة مكافأة أطفالهم الذين يتصرفون بشكل جيد (بتهذيب).
والرشوة قد تكون أكثر سهولة في التثبيت إذا استطاع الراشون ملاحظة ما يدل على ماضي الموظفين الفاسدين في تأديتهم للعمل، وفيما إذا كان هؤلاء الموظفون ثابتين على التعامل الفاسد منذ أمد طويل. كذلك قد تكون الأوامر التي تجد في الابتزاز للدفع، أكثر جاهزية للقبول إذا كان المبتز يملك سمعة في تنفيذ أفعال الانتقام. وعلى سبيل المثال، يستطيع البوليس الفاسد أن يرفع الرشوة إلى الحد الأقصى عن طريق التهديد الجدي بضرب من لا يدفع أو باعتقال الناس الشرفاء بتهم تتعلق بالقيام بدفعات غير قانونية.
إن عدم قانونية الرشاوى وقانونية الهدايا تترك صعوبة في بناء السمعة، أكثر في الأولى منها في الثانية. ويمكن لتقديم الهدايا أن يصبح عرفاً حكومياً ما لم يتضمن إشارات لحدوث تبادل منفعي غير قانوني. فالمانحون يمكن أن يعلنوا عن هداياهم على أمل اكتساب سمعة بالسخاء كما أن منظمات البر والإحسان قد تقوم بنشر قوائم بأسماء المنانحين كطريقة لحث آخرين على العطاء أيضاً. فقدرة المؤسسات على جذب الهدايا من عدة أشخاص معروفين تساعد على تقوية سمعة هذه المؤسسات.
وباختصار فإن كل من المانحين والمؤسسات الخيرية يحرص على الإعلان عن الهدايا بسبب علاقتها بالسمعة والاثنان يدعمان بعضهما البعض بهذه الطريقة. فالمؤسسة الخيرية التي تحظى باحترام كبير تجذب هدايا أكثر لأنها تعطي المانحين هالةً من الفضيلة تشكل سمعة طيبة لهم، في حين تصبح هذه الحالة بالنسبة للمانحين السابقين أداة للتمويل من أجل جذب المزيد من الهدايا.
والهدايا والأعطيات التي تقدم إلى مقدمي الخدمات يمكن أن تأخذ أبعاداً متحركة مختلفة. أفرض أن جميع الأسعار الرسمية متماثلة ولكن هناك وكلاء يمكنهم تقديم خدمات ومنافع خاصة لبعض الزبائن وهم إن فعلوا ذلك فإن آخرين قد يعانوا من نقص في الخدمة. آنئذٍ فإن الهدايا التي تأتي من بعض الزبائن يمكن أن تغري آخرين بأن يعطوا أيضاً ويبدو أن هذا هو القصد من قيام بعض مراقبي أمكنة وقوف السيارات بإعداد قائمة علنية بالهدايا التي يتلقونها من الزبائن الذين يستخدمون المرآب شهرياً. (تيرني 1995) وهذه الطريقة الملتوية في إعطاء الهدايا تصبح قوية بصورة خاصة في حالة وجود نقص في أماكن وقوف السيارات. والذين يستخدمون مواقف السيارات ينهمكون في ماهية لعبة يسميها المنظرون "حب الإنهاك: وهم مقتنعون بالدفع ليس من أجل تجنب سمعة البخل ولكن لتثبيت خدمة جيدة أيضاً.
أما المالكون للمساحة المخصصة لوقوف السيارات فقد يحاولون اقتطاع بعض هذه المكاسب عن طريق وضع أسعار مختلفة لأماكن خاصة مختلفة نوعياً. والتمييز المحتوم الذي يمارسه المراقب على أي حال، يعني أن المالكين سوف لا يكون بإمكانهم اقتطاع كل المكاسب.
بعض الأسواق الفاسدة تعمل بنفس الطريقة إلا أنها اقل فاعلية، لأن الرشاوى عادة لا يمكن أن تكون معلنة وهذه هي إحدى الأفضليات للهدايا على الرشاوى، وكثيراً ما تحوم حملات التبرعات حول حافة الخط الدقيق الفاصل بين الهدايا والرشاوى، وقد تميل إلى جانب أحدهم عن الآخر وفقاً لأهواء قوانين الحملة لمالية. وقد يكون المتبرعون المحتملون أكثر ميلاً للعطاء إذا عرفوا عن هبات الآخرين. فاحتمال زيادة الهبات بشكل متصاعد توحي لرجل السياسة بأن بإمكانه نشر قائمة بالمانحين حتى ولو كان القانون لا يتطلب ذلك.
وفعالية مثل هذه القائمة على أي حال تعتمد على دوافع المانحين، فإذا كانوا مهتمين فقط بانتخاب شخصاً معيناً، فإن الإعلان عن سماحة نفس الآخرين يمكن على المدى البعيد أن يثبط الهدايا إذا كان المانحون يبحثون عن أفضلية على منافسيهم. لأن الأخبار المعلنة عن هدايا منافسيهم قد تستحثهم على أن يعطوا أكثر. وتتحكم صرامة القوانين في التبرعات الخاصة وفي فضح الراشدين والمرتشين وتخلق صعوبة أكثر في بناء السمعة فالراشون والمرتشون يستطيعون تطوير سمعتهم من خلال تمرير مسموعات شفهية عن قبضتهم القوية ولكنهم يريدون أن يظهروا بمظهر الذين يقومون بتنفيذ الصفقات دون أن يبلغوا عن العروض الفاسدة. ولأن مثل هذه الأمور تكون بالعادة خارج الإعلان القانوني والصفقات الرسمية، يحتاج الموظفون الفاسدون إلى وسائل أخرى للاتصال. والصعوبة في بناء السمعة يمكن أن تقود المحتالين إلى التعامل مع شركاء معروفين فقط، وتقليص عدد الأشخاص الذين يمكنهم دفع الرشاوى مما يقلل أيضاً من خطر الكشف من قبل قادمين جدد، لأن بناء علاقة فاسدة بين الغرباء قد تنطوي على بعض المخاطرة، فالشخص الأول الذي يبدي صراحة في الموافقة على دفع الرشوة يصبح تحت رحمة الآخرين الذين يمكن أن يهددوه بكتابة تقرير عن الفعل غير القانوني، لذلك فإن إدخال طرف ثالث يصبح مهماً، ففي بعض الحالات، تكون لغة الصفقات مبطنة وغامضة إلا على المطلعين (غامبيتا 1993) ويصبح ترسيخ الأنظمة الفاسدة أكثر سهولة، إذا تم المحافظة عليها ضمن حدود أسواق صغيرة محلية من أن تنتقل إلى أصعدة وطنية ودولية. فالمحافظة على سرية الموضوع تتطلب وجود أقل عدد ممكن من المتعاملين لتسهيل الاتصال. لذلك يتفشى الفساد أكثر في الصناعات التي يرتكز منتوجها على قاعدة محلية. ويتعاملون مع الحكومة ضمن قواعد دائمة الاستمرار، لأنهم لا يملكون خياراً للمكان الذي سيعملون فيه.
وفي الكثير من المدن يضطر متعهدو الإنشاء وأصحاب عربات نقل القمامة والبائعون في أسواق المدينة أن يدفعوا للموظفين الحكوميين كي يحصلوا على عقود ورخص العمل.
وفي بعض مناطق العالم، يتحالف رجال السياسة المحليون مع عصابات إجرام تفرض بالقوة دفع الأتاوات مع التهديد بالعنف (غامبيتا 1993).
ومثل هذه الأعمال لا يمكنها الخروج من السوق بسهولة لتنتقل إلى أماكن أقل فساداً في مجتمعات أخرى.
والعلاقات الفاسدة يمكن أن تكون أكثر سهولة، إذا كانت نفس المجموعة الصغيرة تتعامل مع بعضها البعض في بيئات مختلفة، إذ يصبح بناء سمعة بالأمانة والموثوقية أو العنف أقل كلفة، مما يقيد نسبياً إعطاء الهدايا والرشاوى وتصبح الثقة غير ضرورية لأن هناك دائماً شخص يقوم بالتدقيق على شخص آخر.
ومع أن مثل هذه الشبكات تكون مألوفة داخل الحكومات المحلية في كل مكان، إلا أن النخب الصغيرة يمكنها السيطرة على مدى أوسع في السياسة فالسمعة يمكن أن تبنى بقوة ضمن تلك المجموعات سواء للأحسن أو للأسوأ.
أما تكاليف بناء السمعة فتكون اقل بساطة حين تصبح الرشوة مقبولة على نطاق واسع وفي ظل غياب القوانين الملزمة والموثوقة. كما يمكن للرشاوى أن تصبح نسبياً أكثر فعالية في تحويل الأجور من القطاع الخاص والمؤسسات إلى الموظفين الحكوميين وحينئذٍ يشكل الفساد أحد الأعراض التي تغلف أسس شخصية الدولة في جميع الأجور.
وفي العالم الفاضل، يبحث القطاع الخاص عن أجور متاحة حكومياً من خلال المغالاة في الإنفاق على برامج وقوانين تخلق احتكاراً في الأجور أما في العالم الفاسد كلياً فقد لا يرغب هؤلاء بإزعاج أنفسهم في البحث عن منافع قانونية لأن مكاسب الاحتكار يمكن أن تكون قد انتزعت من قبل الموظفين الحكوميين في مرحلة الإنجاز. وهناك علاقة أساسية بين الحافز لدفع الأجور وبين توزيع تلك الأجور. ففي البلاد التي يقل فيها الفساد يسعى القطاع الخاص لاستخدام الدولة من أجل الحصول على منافع لنفسه. في حين يقوم الموظفون من الأفراد ومن المؤسسات الخاصة والقطاع الخاص. بفعل هذا عن طريق خلق احتكارات أو فرض قيود. وفي خيار آخر يمكنهم التواطؤ مع الفعاليات الخاصة لانتزاع المكاسب من المصادر الأجنبية والمحلية على أن يتم تقسيم هذه المكاسب فيما بعد بين الموظفين الحكوميين الفاسدين وبين عملاء لهم في القطاع الخاص.
السمعة المتعلقة بأخذ الرهونات:
يعتبر الرهن وسيلة تضمن تنفيذ عمل ما، وعلى وجه العموم فإن الواقع أقل إثارة من قصة الأميرة المحتجزة في البرج، ولكن المبدأ هو نفسه. عند وجود تضارب زمني في صفقة ما فإن الذي يحرك أولاً يطلب من اللاعب الثاني أن يرهن شيئاً ذا قيمة. ويعمل الرهن عمل التعهد حيثما يستطيع الطرفان اللجوء إلى تحكيم عادل لتعزيز الحالات غير المحددة (كرامتون ودييس 1993) من العسير إقامة مثل هذه التحكيمات في حالات المعاملات الفاسدة ولكن دافعي الرشوة يختلقون الإمكانيات لنوع خاص من الرهن. وتكون الرهينة هنا هي سمعة الشخص الآخر. فالذي يبدأ العمل أولاً يمكنه الاحتفاظ بتسجيلات سرية لأعمال الشخص الآخر. وعلى سبيل المثال إذا كانت عقوبة الموظفين أشد قسوة من عقوبة رجال الأعمال، فإن المقاولين يستطيعون دفع رشاوى من أجل القيام بأعمال مستقبلية ويهددون بفضح هذه الدفعات ما لم يقم الموظف بالتنفيذ.
وحين تدفع الرشاوى للحصول على مكاسب قانونية روتينية تصبح إمكانية رهن سمعة الموظف أكثر صعوبة منها في حالة المكاسب غير القانونية. وعلى وجه العموم، كلما ازداد التماثل بين الخسائر التي يتحملها الراشي أو المرتشي من الفضيحة كما قلت مصداقية التهديد بتدمير سمعة الشخص الآخر. ولكن حين تكون سمعة الراشي مدمرة أصلاً تزداد إمكانية قيامه بالكشف عن دفعاته الفاسدة. فعلى سبيل المثال: سلّم عضو في كارتل المخدرات بكولومبيا، نفسه إلى البوليس لينقذ حياته، وساعد الولايات المتحدة على حل شيفرة الدفعات التي قدمت إلى الموظفين الكولومبيين.
وقد تظهر مسألة أخذ السمعة كرهينة في أعمال الإحسان إذ يمكن لمانح المال لجامعة ما أن يحجز سمعتها كرهينة أمام تهديدات بالدعاية السلبية ضدها إذا ما انتهكت شروط استخدام أموال المنحة. ولكن الجامعة بدورها قد تتردد في إطلاق التهديدات السلبية ضد مانح كسول خوفاً من تثبيط عزائم الآخرين، إلا أنها تستطيع مع ذلك اتخاذ خطوات تقضي بتقليص تأخير تسمية بناية ما باسم المانح مثلاً، إلى أن يتم تحويل جميع أموال الهدية قانونياً.
التعهدات المتبادلة:
بعض رجال الأعمال بطورون تعهدات متبادلة طويلة الأمد، فكل شخص يملك حافزاً ليعمل بمسؤولية عندما يكون وكيلاً لكي يستطيع توكيل مديره الحالي في المستقبل.
فعلى سبيل المثال قام كارن كلاي (1997) بدارسة وضع التجار في كاليفورينا بين الأعوام 1830 و 1840 عندما كانت لا تزال تحت الإدارة الإسمية للمكسيك. كان ينقص الوضع آنذاك وجود أنظمة عملية لتنفيذ العقود كما كان هناك تجار قليلون وكان على الفرد العامل في أية مدينة أن يمد يده لطلب المساعدة من الأفراد في المدن الأخرى.
فبدلاً من إرسال وكلاء إلى الخارج، كان الجميع يستخدمون التجار في المدن الأخرى لإنجاز مهامهم ولم يكن هناك حاجةً إلى معاملات ثنائية مباشرة، فالتاجر (أ) يمكنه أن يعمل كوكيل للتاجر (ب) وكذلك التاجر (ب) بالنسبة للتاجر (ج) الذي يعمل كوكيل أيضاً للتاجر (أ). وكانت هذه الترتيبات تستند إلى اتصال نشط في تبادل المعلومات حول سمعة التجار إضافة إلى أخبار وصول ومغادرة السفن وأنواع البضاعة والأسعار.
كيف يمكن لمثل هذه الأنظمة أن تعمل في عالم فاسد؟ لكي تعمل، كان يجب أن لا تذهب الهدايا كلها في اتجاه واحد فالسياسي(أ) يصوت لصالح المشروع الذي يملأ جيب السياسي (ب) ويعتمد (أ) على (ب) لكي يدعمه في مشروع مشابه في وقت لاحق. وزير التخطيط يحابي شركة مملوكة لوزير الأشغال العامة في حين يقوم هذا الأخير في وقت لاحق بمنح عقد لإنشاء طرق جديدة إلى مؤسسة يساهم فيها وزير التخطيط. وفي إيطاليا تستثمر المؤسسات الذي تتعاطى بالرشوة، على وجه الخصوص، في خلق قنوات اتصال خفية تتعامل مع صانعي القرار وذوي النفوذ الأكثر تأثيراً على الناس.
فهذه الروابط الشخصية إضافة إلى الثقة تعتبر رأس مالاً معلوماتياً يشكل وبشكل جزئي ميراثاُ يساهم فيه الفاسدون ومفسدوهم ويحدد تكاليف التعاملات الملتوية في العقود الجديدة (ديلابورتاو فنوتشي 1997: 530) وكما في الحالات التي وضعها كلاي، فإن التعهدات لا تحتاج بأن تكون ثنائية أو قانونية لكي تصبح قابلة للتنفيذ. إذ يمكن لمجموعة وثيقة الصلة بالموضوع أن تحدد المختلسين بسهولة وتستثنيهم من الامتيازات في المستقبل.
وفي هذه الحالات يعتبر التمييز بين الهدايا والرشاوى صعب وعادةً ما تدفع الأموال المتعلقة بمبدأ التبادل النفعي بنفس العملة المتداولة في المنفعة الأولية، وهذه العملة هي فواتير التصويت في الانتخابات والمحاباة في العقود. وإذا نظرنا إلى هذا التصرف بمعزل عن ما حوله فقد يبدوا وكأنه نوع من المحاباة وليس نوع من الفساد ويتم تسلم الهدية بطريقة يصفها البعض بأنها غير ملائمة وليس من السهل تحديد ما هو المكسب الذي يجنيه مقدم الخدمة. والسمعة التي يطلقها عليك الناس الذين قاموا بمساعدتك لعملك الجيد هي التي تحفظ استمرارية مثل هذا النظام.
ونظام (كاليفورنيا) الذي وصفه (كلاي) انهار خلال فترة ظهور الذهب وذلك عندما ازداد عدد التجار بشكل كبير، وقد يكون هذا الأمر علاجاً لأي نموذج لحك الظهر المتبادل وكلما ازدادت أعداد اللاعبين، كلما أصبح تحصيل المعلومات الدقيقة عن السمعة أكثر صعوبة، فعلى سبيل المثال، يوصي البعض بأن النظام المحكم للارتباطات المميزة لمجتمعات رجال الأعمال الصينيين فيما وراء البحار في آسيا، يمكن أن ينهار مع توسع السوق. وهناك حل مختلف تماماً يكمن في إقامة نظام مركزي لمراقبة البيروقراطية من شأنه التقليل من فرص المعاملات التبادلية التي تنتشر مع الوقت.
وبالطبع لن ينجح هذا الخيار إذا ما أصبح أداة لدمج جميع التعاملات الفاسدة في جعبة واحدة، ويبقى الأمل في السيطرة المركزية التي سوف تكشف بشكل أكثر وضوحاً عن التعاملات الباقية على مبدأ المنفعة المتبادلة. وينظر إلى توسيع السوق وتحسين المراقبة معاً على أنها تحركات باتجاه اقتصاد لا شخصي ونظام سياسي وهذه التغيرات يمكنها تدمير شبكات الأعمال الفاسدة ولكنها أيضاً قد تدمر أية وظائف إيجابية وضعتها تلك الشبكات.
المحسوبية، إعطاء الهدية والتطير الاقتصادي:
ترسم اقتصاديات السوق المتطورة حدوداً أساسية وغير أساسية بين التعاملات التجارية غير الشخصية في السوق والوظائف الحكومية من جهة وبين الروابط الشخصية من جهة أخرى. وتنظم قوانين صلات التموين وتضارب المصالح أدوات الربط بين المال والسياسة كما تقوم الأعراف السلوكية بتحديد تداخلات السوق في العلاقات العائلية وعلاقات الصداقة وتمنع المعايير الصحافية المراسلين الصحافيين من قبول النقود لأجل كتابة مواضيع خاصة ولكن مع ذلك تبقى الفوارق بين الأسعار والرشاوى والهدايا والبقاشيش صعبة التحديد والتقييم على أسس معيارية. في البلاد النامية تعتبر هذه المشكلة أكثر إرباكاً والخطوط الفاصلة بين السوق والعائلة وبين القطاعات الخاصة والعامة غالباً ما تكون ضبابية وفي حالة تغير متواصل.
ويأخذ الاقتصاديون الكلاسيكيون على عاتقهم حذف الروابط الشخصية بين المشترين والبائعين. ويجادلون بأن عدم شخصانية السوق تعتبر واحدة من مزياه. فالتجارة تدار بفعالية عن طريق أفراد يبنون قراراتهم التجارية على الصفات المميزة للمنتجات والأسعار. والأسواق تتحفظ على المعلومات وتضمن بصفاتها غير الشخصية تسليم المبيعات إلى أولئك الأكثر تقديراً للبضائع. فالمرء ليس بحاجة لأن يحب شخصاً أو يحترمه من أجل أن يتاجر معه كما أن عملية الاتجار نفسها لا تعتبر مصدراً للخدمات. ومع ذلك فإن هوية المشترين والبائعين في العالم الواقعي تعتبر على الدوام جزءاً مهماً من المعلومات التي تبنى عليها السعة والثقة. والعلاقات الشخصية بين المشترين والبائعين يمكن أن تكون فعالة في حالات الصفقات المعقدة. وقد تبنى العلاقة على أسس العاطفة والاحترام أو على أسس الخوف والإكراه. وإذا كان من السهل نسبياً إقامة علاقات شخصية فإن مشاكل مثل الاحتيال ورداءة نوعية البضاعة يمكن تقليصها عن طريق الجهود المبذولة لخلق سمعة نوعية عن طريق اللطف في التعامل، كما يمكن أن تحل المشاكل التي تظهر على الطريق من خلال التعاون في ما بين مجموعات ذات علاقات متبادلة (باردهان 1993، استرون وجاردنر 1993).
ولا تنسجم الروابط الشخصية دائماً مع الفعالية ولكن الثقة والسمعة والمنافع المتبادلة يمكن أن تسهل وقوع الفساد وتعرقل محاولات تحسين أداء الدولة. وإذا ظل الناس يقصرون تعاملهم مع أصدقائهم فقط، فإن هذا قد يحد من قدوم الدخلاء إلى السوق ويدفع بوكلاء المبيعات والمشتريات إلى محاباة الأقارب والأصدقاء. والرقابة المقرونة بالعلاقات الشخصية إضافة إلى ضبط الصنف تأتي على حساب ارتفاع تكاليف الدخول على من هم خارج الحلقة. واذا كانت المصالح الاقتصادية الخاصة مرتبط بموظفين حكوميين فإن أنظمة التعامل الوراثية والزبونية يمكن أن تتطور باتجاه تبادل الدفعات والرشاوى والمحاباة مما يدمر شفافية وفعالية المؤسسات الخاصة.
وفي الأنظمة الوراثية يصبح الموظفون العامون هم أصحاب المحل في حين ينقلب القطاع الخاص ليصبح زبوناً. وبالمقابل تهيمن المصالح الخاصة على مسار الدولة في الدول التي تعتمد المصلحية في التعامل (كان 1996). لنأخذ مثلاً دولة بنغلادش عند استقلالها وهي مثال على الدولة الوراثية الحكم فبعد انفصالها عن باكستان، لم يتبقى فيها رجال أعمال محليين وأقوياء. فقد كان رجال الأعمال لدولة مصلحية التعامل وضعيفة، تهيمن عليها مصالح العمل الخاص (ماتشكسروفت 1998).
على الرغم من أن الكثر من المصالح الحميمة تبحث فقط عن الأجور إلا أنه يوجد هناك آخرون يهتمون بتطوير مشاريع العمل الإنتاجية بدون زيفٍ أو تكلف (بنشز 1996). عملياً لن يكون واضحاً فيما إذا كان المهيمن هو الحكومة أم القطاع الخاص لأن الاثنين يعملان متعاضدين من أجل تحقيق مكاسب متبادلة. وقد أوضحت دراسة لحالات الفساد الحديثة في إيطاليا وجود مثل هذه الظاهرة المتعلقة بالاتكال المتبادل وأظهرت كيف يمكن المحافظة على هذه الحالة عن طريق التهديدات التي يطلقها كل طرف بكشف الفساد لدى الطرف الآخر (ديلابورتا وفنوتشي 1997)، وفي المجتمعات التي تنطوي على شبكات أعمال متبادلة ومطوقة بإحكام لا يوجد لدى المواطنين إلا القليل من الاهتمام بفعالية السوق والقطاع العام وقد يعتبر هؤلاء أن الأسواق غير الشخصية هي أسواق غير شرعية ومفلسة أخلاقياً. وكحد أقصى فإن الفكرة بشأن مبدأ المنفعة المتبادلة قد تكون هنا في موضع شك.
وقد يظن الناس بأن عليهم أن يعطوا بحرية إلى آخرين من عائلاتهم أو معارفهم متوقعين المعاملة بالمثل فيما بعد. وعلى الرغم من أن المراقب قد يلاحظ ما يبدو أنه حضارة تجارية فعالة فإن أولئك الذين داخل النظام لا ينظرون إليها بتلك الطريقة فالتجارة، بالنسبة لهم تعتبر قانونية بوجود شركاء خاصين على الجانب الآخر من الصفقة.
والمجتمع الذي يرتكز على مثل العلاقات الشخصية العميقة سوف يجد صعوبة في تطوير معيار واسع للمشاريع الرأسمالية أو لدعم التجارة عبر الحدود بشكل فعّال ولكنه قد يخرج بنظام فقير، مكتفٍ ذاتياً وقابل للتطبيق.
والمجتمعات التي ترتكز على علاقات تبادلية قوية، تملك فكرة عامة وضعيفة عن العلاقات الرسمية بين المدير والوكيل والالتزامات التي تفرضها تلك العلاقات على الوكلاء.
ولعل الفكرة القائلة بأن المرء يحمل مسؤوليات متميزة أمام مديره بعيداً عن روابط الولاء والصداقة والنسب، تبدو غريبة أو غير طبيعية، ومثل هذه المجتمعات قد تجد صعوبة في إقامة بيروقراطيات حديثة تضم موظفين منتقين على أسس مهاراتية، يتوقع الناس منهم أن يفصلوا بين دورهم كموظفين وبين دورهم كأصدقاء أو أقارب.
وينظر المواطنون إلى الروابط الشخصية مع الموظفين على أنها أمر ضروري لإنجاز الأعمال ويعتقدون بضرورة مكافأة الموظفين الجيدين من خلال تقديم الهدايا والمنح لهم. ويسعى الموظفون ذوو المنزلة الرفيعة في الحكومة إلى ضمان ولاء من هم أدنى منهم رتبة عن طريق تعيين مرؤوسين يرفضون تلقي الهدية ما لم تحظى بموافقة من هم أعلى منهم. وعند ذلك تقوم جماعات المحسوبيات بالمشاركة في الدفعات صعوداً ونزولاً على السلم الوظيفي الهرمي ويتم تقاسم الدفعات المقدمة إلى القمة وتلك التي جمعت في أسفل الهرم مع الموظفين الأعلى رتبة. والولاء للعائلة والأصدقاء يغلب على الولاء للدولة.
وتعتبر شبكات الأعمال القومية والقائمة على الثقة والسمعة، ذات قيمة لا تقدر بثمن، خلال الفترات التي تكون فيها مؤسسات الدولة ضعيفة وغير فعالة. ففي الفترة الأولى التي تلت حكم الثورة في الاتحاد السوفياتي حلت الشبكات الاجتماعية غير الرسمية مكان البنى المؤسسية الرسمية ونقل الكوادر الذي كانوا يعملون تحت الأرض، ولائهم وارتباطهم إلى داخل الدولة السوفياتية.
ومع مرور الوقت، أصبحت هذه الشبكات مصادر للفساد والمحسوبية والمحاباة واشتكى ستالين من أن تلك البنى الاجتماعية غير الرسمية تقوم بتشويه البنى الرسمية. وقد أعاقت تلك الشبكات جهود غورباتشوف للإصلاح عام 1980 وانقصت من قدرة المركز على تنفيذ السياسات الموضوعة (إيستر 1996: 574، 576، 577).
وبشكل مشابه، في الفترة الحديثة التي شهدت حركات التغيير في أوروبا الشرقية، توسعت العلاقات الشخصية على حساب البنى الرسمية مما أدى إلى تفشي الفساد. وأدى النقص في تفهم مبادئ الإدارة الحكومية إلى إعاقة تطور البيروقراطية في المجتمعات التي تلت اندحار نفوذ السوفيات في أوروبا الشرقية. فالولاء لأعضاء آخرين في المنظمة كان يبدو أهم من الولاء للإدارة الجيدة.
ووفقاً لدراسة أجريت في بلغاريا، ظهر أن الموظفين العاملين في وزارة المالية البلغارية لازالوا يشعرون بأنهم ملزمون بحماية زملائهم في مكاتب الجمارك أكثر تقريباً من إطلاق حملة تحقيق جدّي لما بدا وكأنه ممارسات فاسدة لموظفي الجمارك (فيرهيجن وديمتروفا 996: 205 ـ 206). وتعتبر عواقب هذا الوضع عميقةً على المدى الطويل مما يزيد من صعوبة إيجاد بنى فعالة للدولة.
لنفرض أن قادة أحد البلدان قرروا إدخال مؤسسات سوق حرة وبنى حكومية تحتية لأول مرة على نسق تلك الموجودة في الدول المتقدمة، فماذا سيكون تأثير هذه المؤسسات الجديدة على المواقف الأساسية للشعب؟ إن الانتقال من وضع تعتبر فيه الروابط الشخصية قاعدة سلوك، إلى مجتمع تسوده الموضوعية، وأكثر تحرراً من الروابط الشخصية، وتوجد فيه أسواق قوية ومؤسسات قطاع عام يمكن أن يكون انتقالاً مؤلماً يخضع لدورات من الخير والشر.
إن إدخال مؤسسات جديدة تتطابق بشكل هزيل مع القواعد الأساسية المتبعة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور حالات مرضية تجعل من حصول التغيرات التدرجية في المواقف أمراً أقل احتمالاً. في الوقت الذي يرقب فيه الناس ارتفاع تكاليف السوق، لا توجد حدود دقيقة ومعقدة بين النشاطات السوقية وغير السوقية في البلدان التي اعتمدت قليلاً على الأسواق الحرة غير الشخصية في الماضي.
وإذا حاولت مثل هذه البلدان أن ترفع من الدور الوظيفي للسوق في الوقت الذي تقوم فيه بإنشاء دول بيروقراطية حديثة، فإن النظام الناتج قد تتخلله العديد من الأمراض. وتنتشر الرشاوى بين موظفي الدولة، وتقوم العلاقات التجارية في الأسواق على ارتباطات شخصية. وتستمر مشتريات الدولة وتعيين ملاك الموظفين على أسس من المحسوبية والمحاباة. من جهة يمكن أن يفقد السوق شرعيته الهشة عن طريق دخوله عنوة إلى مناطق ينظر اليه فيها بأنه غير شرعي حتى في اقتصاديات السوق المتطورة، ومن جهة أخرى يمكن أن تصبح مأسسة السوق أمراً صعباً في تلك المناطق التي يظهر فيها السوق وقد حقق مكاسباً واضحة وفعالة مقارنة بأماكن أخرى. هناك احتمال لوجود دوائر فاضلة أيضاً فحين يرى الآخرون أن هؤلاء الذين عملوا في القطاعات الحديثة قد استفادوا، يتشكل لهم حافزاً للتجربة ولو على مضض. ففي الصين مثلاً، شجع النجاح الذي حققته بعض الأقاليم، نتيجة تحرير اقتصادياتها، أقاليم محافظة أخرى على تقليدها (شيرك 1994).
فالنجاح الذي يحققه قطاع عمل بحجم صغير أو متوسط، محرر من التحكم المفرط، يمكن أن يشجع آخرين على تجربة حظهم كمستثمرين. ويخشى (روبرت سكالبينوا 1989: 77) أن يستمر المستثمرون الذي جاءوا من بين طبقات الموظفين الصينيين على مواصلة عادتهم المكتسبة منذ وقت طويل، ويعتمدون بشكل شامل على علاقاتهم السياسية وعلى تبادل المنافع. ومع ذلك فهو يشير إلى عودة ظهور روح براغماتية والى استثمارات مستقلة خلاقة كانت قد طمستها الطبقة العليا للدولة الاشتراكية. فالصين تتقدم بسرعة، وما يزال الوقت مبكراً للحكم على الاتجاه الذي تسير إليه وفيما إذا سيكون نحو دوائر الفضيلة التي ستدخل اقتصاد السوق التنافسي أو نحو دوائر الإثم والخيانة والفساد التي تولد شبيهاتها في قطاعات أخرى. هل أن الجهود المبذولة لتقييد التعاملات الشخصية المعقودة من قبل موظفين حكوميين وبين العاملين في الأسواق، وتشوه الملامح المرغوبة للعلاقات الحرة المبنية على الثقة والاحترام؟
يناقش رتشارد تتمس (1970) موضوع عمليات نقل الدم. ويقول أن ازياد دورها في الأسواق قد يكون مصحوباً بشعور لا يحمل الكثير من الالتزام بمساعدة الأقارب والأصدقاء. وقد تنخفض درجة التعاون من أجل حل المشاكل مما يتسبب في معاناة المحتاجين. وعلى الرغم من ذلك، وإذا حدث أي نشاط تبادلي، فإن الولايات المتحدة توصي بأن لا يكون هذا النشاط صارخاً.
وعلى الرغم من تشكيكات بعض الكتّاب، فالولايات المتحدة تملك شبكة واسعة وكثيفة من المنظمات التي لا تتوخى الربح، كما تملك تاريخاً طويلاً من العمل التطوعي ومن التبرعات الخاصة بالإحسان وبالأقرباء. وتعتمد الكثير من علاقات الأعمال الخاصة على الثقة والسمعة من اجل ضمان إنجاز عال المستوى.. ويحدد تنظيم الحملات السياسية والسلوك البيروقراطي من التعامل المصلحي على الرغم من أن الثروة الخاصة، بالطبع، ما تزال ذات تأثير هام على الحياة السياسية.
وفي أفريقيا، يقوم بعض المراقبين المحبطين من فشل التجارب التنموية السابقة بالحث على إجراء دراسة أكثر دقة للمؤسسات الأهلية. ويناقش ممادوديا بأن أفريقيا تواجه أزمة مؤسسات وأن هذه الأزمة ناشئة بشكل رئيسي عن انقطاع الاتصال البنيوي والوظيفي. أو عن نقص التقارب بين المؤسسات الرسمية التي زرعت من الخارج. والمؤسسات غير الرسمية متجذرة في تاريخ أفريقيا. وتتميز ثقافتها وأعرافها بحكم المجتمع المدني على وجه العموم (ديا 1996: 29).
ويقدم ديا عدداً من الحالات التي تبين نجاح الجهود المبذولة لدمج قيم الثقافة المحلية وممارساتها في جهود التطوير الحديث. على سبيل المثال، قدمت شركة الكهرباء العامة في كوت دي فيروي، جهداً منظماً للمصالحة بين الثقافة المجتمعية وثقافة المؤسسات بدون أن تتحيز لأي منهما (نفس المصدر 222 ـ 227) وكان المقصود هنا هو توجيه سؤال حول كيفية دمج التقاليد المؤسسية والممارسات القديمة مع الخبرات الحديثة بالتركيز على أفضل ما فيهما من أجل النهوض بالاقتصاد.
وتعطي الخدمات الائتمانية والمصرفية مثالاً على ذلك، ففي العديد من الدول النامية، يوجد مصدر عام للفساد والمحسوبية. ومن غير المحتمل أن تقوم النخبة التي تسيطر على مخصصات القروض بتسليم هذا المركز المميز والقائم على ارتباطات حميمة بالحكومة، وهنا يتوجب على الإصلاحيين أن يجدوا طريقة لتقديم القروض خارج هذه الشبكات المحسوبية الموجودة. وقد برزت عدة تجارب واعدة في هذا المجال، والهدف هنا ليس إعادة تشكيل الأطر المؤسسية المعهودة في الدول النامية والتي تركز على التقييمات المطوَّلة للمخاطر والمردودات بل تتفهم هذه التجارب أهمية الارتباطات الشخصية مع تقديم بدائل لتخصيصات القروض مبنية على العضوية في جماعات من النخبة.
فالعلاقات الحميمة التي تربط بين الجيران في المجتمعات الفقيرة تعتبر مكملة للجهود المبذولة من أجل إنشاء نظام بنكي. والضغوط الاجتماعية تشجع الناس على العودة للدفع ولكن القروض الأساسية صممت لأولئك الذين هم خارج دائرة المقترضين.
عملياً حققت بعض هذه التجارب نجاحاً فقط في تقديم القروض لبعض المزارعين المحليين ذوي النفوذ (روبنسون 1992: 22 ـ 23، 27 ، 57) إلا أن بعضها الآخر نجح في تجيير تلك الضغوط الاجتماعية لصالح تشجيع الدفع. ومع ذلك فإن علينا أن ننتظر لنرى إذا كان بالاستطاعة تنظيم مثل تلك البرامج بدون الحاجة إلى تقديم أي دعم.
استنتاجات:
إن تعريف الرشوات والهدايا هو مسألة حضارية لكن الحضارة تتحرك وتتغير باستمرار فالتصرف الذي يراه البعض فاسداً، ينظر إليه البعض الآخر على أنه نوع من إعطاء الهدايا أو المكافأة، ويجب أن يتم تدوينه وإعطائه صفة شرعية. ولكن إذا انطوت هذه الممارسات على تكاليف خفية أو غير مباشرة على الجمهور، فيجب على المحللين ان يحققوا فيها وأن يقوموا بتوثيقها. وتعريف التصرف المقبول قد يتغير عندما يصبح الناس على علم بالتكاليف التي قد تتكبدوها نتيجة سكوتهم عن الدفعات التي يقبضها السياسيون والموظفون المدنيون. وفي المقابل قد يتعلم الخبراء شيئاً جديداً عن تنظيم النشاطات الاقتصادية والاجتماعية من خلال دراسة الأنظمة التي تشكل فيها "العقود الضمنية" الإطار الوحيد للصفقات والتي تدخل فيها العلاقات الشخصية في صلب الحياة الاقتصادية.

المصدر: سوزان روز أكرمان/الفساد والحكم.. الاسباب، العواقب الإصلاح، ترجمة فؤاد سروجي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان.
(*) استاذة القانون والعلوم السياسية بجامعة ييل، بأمريكا، المدير المشارك لمركز كلية الحقوق والاقتصاد والحقوق والسياسة العامة، في الجامعة نفسها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق